الرئيس العليمي: العدالة مسار دولة لا شعار عاطفة
عبدالرحمن جناح
في مشهد يعبّر عن عمق المسؤولية ورصانة القيادة، التقى فخامة الرئيس الدكتور رشاد محمد العليمي، رئيس مج...
في أعماق النفس البشرية سرّ عجيب: الإنسان حين يتألم من واقعه، لا يهرب إلى المستقبل، بل يعود إلى ماضيه. حتى لو كان ذلك الماضي ظالمًا. فالعقل، حين يعجز عن احتمال فوضى الحاضر، يبدأ في تجميل الاستبداد القديم، وكأنه كان عدلاً مفقودًا.
هذه الظاهرة ليست يمنيّة فقط، بل إنسانية الطابع، تكررت بعد سقوط أنظمة كثيرة، لكن تجلّيها في اليمن صار أكثر وضوحًا. فالشعب الذي اكتوى بثلاثة عقود من حكم علي عبدالله صالح، عاد اليوم، بعد أن عاش فوضى ما بعده، ليترحّم على أيامه، وكأن الجلاد كان رحيمًا ذات يوم.
الوعي المشوّه والذاكرة الانتقائية
حين تنهار الدول، لا ينهار الوعي دفعة واحدة، بل يبدأ بالانكماش. فيتحول الإدراك الجمعي من تحليل السبب إلى البحث عن المألوف.
المألوف لا يخيف.
الناس لم تعد تذكر كيف صنع صالح خراب اليمن، بل تذكر فقط أن الحياة حينها كانت “ممكنة”، وأن الأسعار كانت “أخفّ”، وأن الموت لم يكن في كل زاوية.
هذه هي آلية الذاكرة الانتقائية التي يحتمي بها العقل من الألم.
في علم النفس، يسمّى هذا الميل Rosy Retrospection Bias: أي أن الإنسان يتذكر الماضي بلونٍ ورديّ، لأن الحاضر رماديّ مؤلم.
وهو ما يتقاطع مع ما يسميه علماء الاجتماع Collective Stockholm Syndrome: حيث تتعاطف الجماعة مع من قهرها، لأنها لا تعرف من بعده سوى الخوف والتيه.
الخوف من المجهول أكبر من الخوف من الظلم ,, هنا تكمن المأساة العميقة.
الإنسان لا يخاف الظالم بقدر ما يخاف الغياب.
ففي غياب النظام، ولو كان فاسدًا، يضيع شعور “المرجع”، ويموت الإحساس بالثبات. لذلك، حين يُستبدل الطاغية بالفوضى، يشتاق الناس إلى طغيانٍ مألوف، لأنه على الأقل كان يمكن التنبؤ به.
وهكذا تتحول الذاكرة إلى أداة دفاع نفسي :
الناس لا تحب علي عبدالله صالح، بل تحب “استقرار الألم” الذي كان في عهده.
ذلك النوع من الاستقرار الذي يشبه صمت المقابر: لا حياة فيه، لكن على الأقل، لا صراخ.
المتلازمة ليست جهلًا، بل ردّة فعل بشرية,, فيخطئ من يظن أن الذين يترحمون على أيام صالح أغبياء أو بلا وعي, إنهم ضحايا متلازمة الحنين إلى الجلاد,, وهي ليست مرضًا فرديًا، بل استجابة جماعية لصدمة ممتدة.
حين يطول الانهيار، يختلط في الوعي الجمعي معنى “الأمان” بمعنى “القهر”، فيتمنّى الناس عودة الجلاد، لا حبًا فيه، بل كرهاً لهذا الضياع المستمر.
الحلّ ليس في اللوم، بل في الوعي
فلن يتعافى اليمن من هذه المتلازمة إلا حين يفهم أن “الأيام الأفضل” لا تعني “الحاكم الأفضل”، بل تعني أن الظروف الأسوأ لم تكن قد بدأت بعد.
الحنين ليس خيانة، لكنه خطر حين يتحوّل إلى تبرير.
فمن يحنّ إلى الجلاد، يفتح الباب لجلادٍ جديد يرتدي قناع الذاكرة.
ما لم ندرك أن الخوف من الفوضى لا يبرّر الحنين إلى الاستبداد، سنبقى نعيد إنتاج الجلاد في كل جيل.
وعي الشعوب لا يُقاس بقدرتها على إسقاط الطغاة، بل بقدرتها على عدم الحنين إليهم.
قبطان بحري