العربية في يومها العالمي " سكينة الحرف وعزة المعنى "

ان اللغة العربية ليست مجرد أداة تواصل ، ولا وعاء محايدا للأفكار بل هي كيان حي يتنفس بنا ، هي الذاكرة حين تخوننا الأزمنة ، وهي البوصلة حين تتكاثر الطرق وتضيع الاتجاهات ، في عالم تتزاحم فيه اللغات على النفوذ ، وتقاس فيه القيمة بمنطق الاستهلاك والسرعة ، هنا تقف لغة الضاد بوصفها الأسمى ، والأرقى ، والأبقى ، لا لأنها الاقدم فحسب بل لأنها الأعمق أثرا في تشكيل الوعي والهوية والمعنى

ففي لغة الضاد نهجنا ودستورنا الحاضن لنا ، فقد ابتدأت بقرآننا العظيم ، فأصبحت قدسيتها من قداسة الوحي ، وصار حرفها شاهدا على الاعجاز الإلهي حين نزل بلسان عربي مبين ، ثم مررنا بها عبر تاريخنا النديم فكانت مخزن الذاكرة الجمعية التي لم تمح رغم الغزوات والانكسارات ، فبها صيغت القوانين ، وارتفعت منابر الفكر والفلسفة والشعر ، حتى وصلنا بها الى حاضرنا السديم ، حاضر تتلبده الاسئلة ، وتثقل كاهله التحولات ، لتتجلى هنا اللغة العربية لا بوصفها حنينا للماضي بل رؤية للمستقبل ، فمن يظن بأن التقدم يقتضي التنازل عن اللغة يخلط بين الوسيلة والجوهر ، فالعربية قادرة على احتضان العلم كما احتضنت الفلسفة منذ ازمانها وقادرة على مجاراة العصر دون ان تفقد اصالتها فهل يمكن للمعنى أن يبلغ تمامه لو لم يصغ في اتساع دلالاتها ، وفي قدرتها العجيبة على حمل المطلق دون أن تنكسر قامتها ؟
ان العربية لم تكن شاهدا على التاريخ فحسب بل كانت صانعة له ، ومحركة لعقله وروحه في أن واحد ، فهي أمنا ومهدنا وعالمنا ، هي التي تشد أزرنا عند حديثنا ، وتمنح وسام العزة لاقلامنا ، هي الروح إن نطقنا وهي السكينة إن صمتنا ، فلا قوافي تصدح دون شعرائها ، ولا مدن تبنى دون عوالمها ، ولا أفكار تخلد إن لم تجد في حروفها مأوى ، و هي إبحار الزمان ومرساه لنا وأرشيف لا يصدأ وعبق لا يوارى

ففي مضمونها اللباقة حين يضيق القول ، وفي صداها العزة حين يمتحن الموقف ، هي الكرامة حين يساوم المعنى ، وهي كل ما لنا على هذه الأرض 
بل هي الأرض بذاتها في هذا الكون ، فمن يفقد لغته يفقد موقعه من الوجود ، ومن يحفظ لغته يحفظ حقه في أن يكون

ومن ذلك المنطلق يأتي الينا اليوم العالمي للغة العربية في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام ليس كاحتفاء للعالم بها فقط بل هو اعترافا بأهمية وجودها الكوني ، ففي هذا اليوم أصدرت " الجمعية العامة للأمم المتحدة " قرارها في ديسمبر عام 1973م ، والذي أُقر بموجبه إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة ، وهو يوم لا يسجل في الروزنامة فحسب بل يسجل في سجل الكرامة الثقافية للأمة بأكملها ، لدلالته على أن العربية ليست لغة قوم فقط بل لغة حضارة وإنسانية ممتدة ، والدفاع عنها ليس ترفا ثقافيا ولا حنينا رومانسيا مؤقتا ، بل هو خطوة وعي ومقاومة ناعمة في زمن التلاشي ، ومسؤولية أخلاقية قبل أن تكون واجبا لغويا ، فبها نكتب عن ذواتنا ، وبها نعيد تعريف موقعنا في هذا العالم 
ولنا بها فخر وسمو لا ينقضي حتى انتهاء العمر ، لأنها لم تكن يوما مجرد لغة بل كانت ولازالت وستبقى بيت المعنى وبيان الهوية لذواتنا .

بقلم الشاعرة والكاتبة / دعاء هزاع الجابري

مقالات الكاتب