الاوزون / من غطرسة النفوذ الى وعي المسؤولية الدولية "

سردية صراع طويل بين الربح العابر وحق الارض في الحياة ، كيف اصلحت السياسة ما افسدته المصالح  


لم يكن الشتاء هذه المرة فصلا بل رسالة مؤجلة وصلت أخيرا  
فجاء الشتاء ككف خفية تمس جبين الأرض لتوقظها من طول الإنهاك ، 
وكأن الطبيعة قررت أن تكتب تاريخها لا بالحروف بل بالارتجاف
ففي تغير الهواء وتيه الفصول حكاية أعمق من الطقس ، حكاية كوكب صبر طويلا على سوء الفهم ثم بدأ بالكلام حين لم يعد الصمت صالحا للحياة

فلم يكن البرد الذي طرق أبوابنا في الأيام الأخيرة مجرد انخفاض في درجات الحرارة ، ولا كان الشتاء الذي أطل علينا بهذه القسوة غير المألوفة فصلا عابرا جاء في موعده ، بل كان رسالة كونية ، ونداء صامت من الأرض ، يعيد طرح السؤال القديم : ماذا فعل الإنسان بكوكبه ، وماذا تبقى له منه ؟
فالطالما اعتدنا أن نحمل الفصول مزاجها ، وأن نرجع اضطراب المناخ إلى صدفة عمياء أو دورة طبيعية لا معنى لها ، غير أن الطبيعة حين تطيل الصمت لا تفعل ذلك عجزا بل انتظارا ، وما نشهده اليوم ليس انقلابا فجائيا في الطقس بل ارتداد الوعي بعد غياب ونتيجة مسار طويل من الخطأ ثم الاعتراف

فهناك في طبقة لا نراها ولا نشعر بثقلها كانت الأرض تنزف بصمت ، طبقة " الأوزون " ذلك الغشاء الرقيق الذي يفصل الحياة عن الفناء ، تآكلت يوما بفعل ايادي بشرية لم تحسن التقدير ، فاختل الميزان وارتبك المناخ وصارت الفصول تتقدم وتتأخر كمن فقد بوصلته ، وحين انكشف الجرح لم يكن الجرح بيئيا فحسب بل أخلاقيا أيضا 
وبعد أعوام من العناد ، بدأت الأرض تستعيد أنفاسها ، فعاد الثقب الذي شق في السماء يتقلص ، فقط لأن الإنسان ولو متأخرا قرر أن ينصت ويعمل في أن واحد ، فقد حملت الأوساط العلمية مؤخرا بشرى طال انتظارها الا وهي " ثقب الأوزون بدأ فعليا بالتعافي " وهاهو اليوم قد بلغ أصغر مستوياته منذ سنوات ، في مؤشر لا يبعث على الأمل فحسب بل يفتح نافذة ثقة بين الإنسان والطبيعة
وفي أقصى الجنوب حيث اعتادت القارة المتجمدة " أنتاركتيكا "  أن تخسر ذاكرتها الجليدية عاما بعد عام بدأ الجليد يعود كمن يسترد اسمه بعد طول نسيان ، وكأن الكوكب يقول : ما زال في الوقت متسع للترميم 
مكتسبة بذلك ما يقارب 108 مليارات طن من الجليد سنويا بعد سنوات من النزيف الصامت

ولم يكن هذا التحول حكرا على أرض دون أخرى ، فالشتاء الذي اشتد في الغرب تسلل ببرودته إلى منطقتنا العربية أيضا ، حاملا أمطارا غزيرة وثلوجا 
لم نألفها في أماكن كانت الشمس سيدة أيامها ، ولم يكن ذلك عقابا بقدر ما كان تذكيرا ب " حين يختل النظام يتغير كل شيء ، وحين يبدأ التعافي يعاد رسم المشهد بأكمله " ، غير أن طريق الشفاء لم يكن نقيا ولا مستقيما ، فقد سبقه زمن من الغطرسة الصناعية ومن سياسة أعلت الربح فوق الحياة ، وأسرفت في العبث بالكيمياء دون حساب ، وكانت هنالك دوما مقاومة شرسة لأي بديل آمن وتشريعات دولية ولدت ضعيفة ومؤجلة ، وكأن مستقبل الكوكب قابل للتفاوض وكان الإنسان في ذروة قوته أكثر ما يكون عميانا
لكن الحقيقة مهما طال إخفاؤها لا تموت ، فحين تراكم الدليل وحين صار الخطر يمس الجسد البشري قبل الطبيعة ، اضطرت الدول إلى الاعتراف بأن المسألة ليست شأنا محليا ولا خلافا سياسيا بل تهديد وجودي
عندها فقط بدأ العقل يستعيد سلطته ، وبدأ القرار السياسي ينحني للمعرفة لا العكس ، حتى تكاتفت الجهود لا بدافع الفضيلة وحدها بل بدافع البقاء بسلام 
فعادت القوانين لتراقب ، والعلوم لتقود ، وامتد العون إلى الدول الأضعف حتى لا يكون الفقر ذريعة لتدمير الغد ، وفي لحظة نادرة من تاريخ العلاقات الدولية اتفق المختلفون على أن السماء فوق الجميع ، وأن حماية الغلاف ليست ترفا أخلاقيا بل شرطا للحياة ، وكان لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة " UNEP " دور محوري في ترجمة المعرفة إلى سياسات ، وفي تفعيل آليات الرقابة والمساءلة على إنتاج وتجارة المواد المحظورة ، وفرض قيود تجارية على الدول غير الملتزمة ، وها نحن اليوم نقف أمام نتيجة ملموسة ، أمام تغير نلمسه في الهواء والمطر والبرد ، بدليل صريح على أن الخطأ مهما تعاظم ليس قدرا أبديا ، وأن الإنسان حين يكف عن العناد قادر على الإصلاح ، فقد كان السلوك البشري غير المنضبط سبب الخطر على هذه الارض ، لكنه كان أيضا في ذات الوقت مفتاح للخلاص

وهنا تأتي حكمة " أبي القاسم الشابي " لتتردد لا كشعار شعري بل كقانون كوني " إذا الشعبُ يومًا أراد الحياة ، فلا بد أن يستجيب القدر " 
فالطالما أرادت البشرية الحياة لا في خطابها فقط بل في أفعالها ايظا حتى استجابت الأرض على طريقتها ، وما نشهده اليوم ليس نهاية المعركة بل شاهد حي على أن الوعي حين ينتفض " يتغير المصير " .

بقلم الشاعرة والكاتبة / دعاء هزاع الجابري

مقالات الكاتب